صورة التقرير لأبراج البارودية في منطقة الحاضر بمدينة حماة، 17/ 12/ 2023، (حماة اليوم)
مكسيم الحاج وتسنيم الشافعي-حماة
حماة- في آب/ أغسطس 2023 أغلق مجلس مدينة حماة ملف “أبراج البارودية”، بإخلائها من نحو 700 شخص، غالبيتهم نساء وأطفال، كانوا يتخذونها مركز إيواء بعد نزوحهم، في عامي 2013 و2014، من أرياف إدلب وحلب هرباً من القصف.
أم تحسين، سيدة خمسينية، واحدة من اللواتي أقمن بأبراج البارودية، أو ما تُعرف بـ”السكن الشبابي”، الواقع في حي الشرقية بمنطقة الحاضر في مدينة حماة، منذ نزوحها رفقة طفليها من ريف إدلب الجنوبي، عام 2013، هرباً من القصف الذي أدى إلى مقتل زوجها.
تأقلمت أم تحسين على المعيشة في “السكن الشبابي” رغم أن “الشقق على العظم، أي من دون إكساء وتجهيزات”، كما قالت السيدة لـ”حماة اليوم”، مشيرة إلى أنها وجيرانها جهزوا المكان بـ”بعض الأشياء الأساسية، مثل النوافذ والأبواب وطلاء الجدران، لتسهيل حياتنا”، وبعد نحو عشر سنوات “تم إخراجنا بطريقة بشعة، وألقي أثاث من رفض الخروج على حافة الطريق من دون تأمين مأوى بديل”.
صورة نشرتها إحدى صفحات الفيسبوك على أنها أثاث للعائلات التي تم إخراجها من أبراج البارودية بمدينة حماة، 24/ 08/ 2023
تعود ملكية أبراج البارودية الأساسية لمديرية الأشغال العامة والإسكان في مدينة حماة، وتم الاكتتاب عليها من المواطنين عبر دفع أقساط مالية ميسرة. بدأت المديرية في تشييد هذه الأبنية عام 2008، ومع بدء الاحتجاجات في سوريا، عام 2011، أوقفت العمل على المشروع.
ومع موجة النزوح التي شهدتها حماة من مناطق ساخنة، شمال غرب سوريا، تم تحويل “أبراج البارودية” إلى مركز إيواء مؤقت للنازحين، بتنسيق بين الحكومة السورية والجمعيات الأهلية المحلية، وطيلة السنوات الماضية “لم يطالبنا أحد بإخلاء الأبنية”، حتى حزيران/ يونيو 2023، عندما أنذرت محافظة حماة النازحين بضرورة مغادرة المكان، وأعطتهم مهلة ثلاثة أشهر “من دون أن تؤمن لنا سكناً بديلاً”، وفقاً لأم تحسين.
تجاهلت أم تحسين الإنذار، كما غالبية النازحين، مستبعدة أن تتخذ المحافظة أي تدابير ضدهم، في ظل عدم إمكانية عودتهم إلى الأماكن التي ينحدرون منها وعدم تأمين مأوى آخر، لكنها فوجئت بإنذار آخر في 13 آب/ أغسطس، مفاده أن الشرطة ستخلي الأبراج بعد 48 ساعة، وفعلاً “وجدنا أنفسنا بلا مأوى، وبقينا تسعة أيام مشردين ننتقل من منزل إلى آخر من منازل معارفنا في المدينة”.
وأضافت السيدة: “بعد انتهاء المهلة بدأت البلدية بعمليات الإخلاء رفقة عناصر الشرطة، دون النظر إلى أحوال العائلات وظروفها التي تمنعها من الخروج، ورموا أثاثنا على أطراف المجمع السكني بذريعة أن أصحاب الشقق طالبوا بشققهم من أجل إكمال المشروع الذي توقف مع بدء الحرب”.
لا تنكر أم تحسين بحق أصحاب الشقق، ولكن “كان على الحكومة أن تجد بديلاً لنا كعائلات فقيرة كنا نتشارك مع بعضنا من أجل تأمين طعامنا، وليس لدينا قدرة على استئجار منازل في حماة حتى في أبسط أحيائها”، على حد قولها.
وجدت أم تحسين منزلاً صغيراً، مكوناً من غرفة ومطبخ صغير في منطقة مزارع غرب المشتل بحماة، أجرته الشهرية مئة ألف ليرة سورية (سبعة دولارات أميركية بحسب سعر الصرف الحالي في السوق السوداء، البالغ 14,250 ليرة للدولار الواحد)، “دفع أجرته أحد المتبرعين لمدة عام كامل، وجهزّه بمدفأة صغيرة وغاز وأساسيات المطبخ”.
شعور بالخذلان
رغم قساوة الحياة في “السكن الشبابي” إلا أنه كان يستر داخله عشرات العائلات النازحة إلى حماة، كما هو حال، رجل ستيني ينحدر من مدينة خان شيخون بريف إدلب الجنوبي، التي استعاد النظام سيطرته عليها في آب/ أغسطس 2019.
في عام 2013، عملت الجمعية الخيرية بحماة على إيواء أبو عمر وزوجته وأبنائه الثلاثة في “السكن الشبابي”، وبقي فيها إلى أن تم إخراجه “عنوة” في آب/ أغسطس 2023، قائلاً لـ”حماة اليوم”: “كنت أتمنى الموت على أن أشاهد رمي الأثاث والأغطية على حافة الطريق أمام أعين أبنائي”.
قضى أبو عمر عدة أسابيع “صعبة” بعد إرغامه على إخلاء الشقة التي كانت تؤويه، لأنه لم يكن قادراً على إيجاد شقة يتناسب إيجارها مع دخله الشهري، الذي يبلغ 350 ألف ليرة (24 دولار تقريباً)، لقاء عمله في أحد المخابز صباحاً وحارساً لمنشأة صناعية ليلاً.
بعد عناء، وجد الرجل الستيني ملحقاً سكنياً (بناء على سطح)، مكون من غرفة واحدة ومنتفعاتها في منطقة دوار الجب، يبلغ إيجاره الشهري 150 ألف لير ة (10.5 دولار)، كما قال.
بالنسبة لمحافظة حماة، أغلق ملف “أبراج البارودية”، المعروفة بالسكن الشبابي، بمجرد إخراج النازحين منها، لكن معاناة هؤلاء ما زالت مستمرة إلى اليوم، وفقاً لأبو عمر ومصادر أخرى تحدثت لـ”حماة اليوم”.
لقطة شاشة لتعليق أحد الذين تم إبلاغهم بإخلاء الأبراج يناشد شبكة “شام إف إم” المقربة من الحكومة لإيجاد حل لمشكلة النازحين
قال أبو عمر مستنكراً: “عند إرغامنا على الخروج، تذرعت الحكومة بأننا نستطيع العودة إلى مناطقنا، باعتبارها صارت آمنة”، لكن “أين تلك المنازل التي تهدمت كلياً أو أجزاء كبيرة منها؟”، مشيراً إلى أن منزله بخان شيخون “لا يصلح للسكن، وليس لدي قدرة على إعادة ترميمه”.
قدّر أبو عمر تكاليف إعادة إعمار منزله بحوالي ثلاثين مليون ليرة (2105 دولار)، تتضمن إعادة بناء الجدران وإكساء المنزل، ناهيك عن فرشه “بعد سرقة محتوياته من جهة غير معروفة”، على حد قوله.
ولا تتوقف عودته على مشكلة الترميم فقط، وإنما “عدم وجود فرص عمل”، معتبراً أن هذا السبب “من أهم الأسباب التي تعيق عودتنا إلى خان شيخون”.
عبر أبو عمر عن شعوره بـ”الخذلان” بعد تخلي الحكومة السورية عنهم، والضغط عليهم من أجل العودة إلى منازلهم بدلاً من تأمين سكن بديل لهم.
وفي هذا السياق، اعترف ياسين (اسم مستعار)، وهو أحد المكتتبين على شقة في أبراج البارودية، بوجود ضغط من أصحاب الشقق على محافظة حماة من أجل إخلاء الأبراج وتسليم الشقق لأصحابها، مشيراً إلى أن “الضغوط يمارسها تجار عقارات اشتروا الشقق من المكتتبين بأسعار زهيدة طمعاً ببيعها بأضعاف سعرها”، كما قال لـ”حماة اليوم”.
كان يُفترض على مجلس محافظة حماة “احتواء العائلات ومساعدتهم بإيجاد منازل بديلة، أو على الأقل تشجيع المبادرات الأهلية من سكان الأحياء المجاورة للسكن الشبابي لدعم النازحين”، لكن بدلاً من ذلك “طلب مجلس البلدية من المنظمات المحلية عدم مساعدة النازحين، لا سيما أولئك الذين ينحدرون من المناطق التي استعادت الحكومة السيطرة عليها، من أجل دفعهم إلى العودة إليها”، كما قال ياسين.
وأضاف ياسين: “قدمت بعض المنظمات المحلية مساعدات للنازحين، لكن المبلغ كان بحدود 500 ألف ليرة بناء على طلب البلدية، وهو مبلغ يؤمن لهم مأوى لمدة ثلاثة أشهر فقط”، وفقال له. حاولت “حماة اليوم” التثبت من روايته من مصدر مستقل، لكنها لم تتمكن من ذلك حتى لحظة نشر هذا التقرير.
تعليقاً على ذلك، قال المحامي وائل الصالح (اسم مستعار)، أن عملية “إخلاء الأبراج” لا يتعارض مع الدستور السوري ولا ينتهك القانون. على العكس من ذلك، فإنها “لم تكن ضمن الأطر القانونية عندما تعاونت مع المنظمات بإيواء النازحين في السكن الشبابي من دون موافقة مالكيه”، مشيراً إلى أن “الحكومة اتفقت مع اللجان الشبابية من أجل إعطاء الموافقة على إيواء النازحين بعد أن سمحت لهم باستخدام العقار”.
ومع ذلك، شدد المحامي على أن قضية النازحين الذين تم إخراجهم من “أبراج البارودية”، تتعدى حدود الدستور والقانون، وهي “ضمن الأطر الأخلاقية والإنسانية، التي توجب على الحكومة تأمين سكن بديل عن الذي تم إخراجهم منه”، كما قال لـ”حماة اليوم”.
تقرير مشترك بين” صحيفة حماة اليوم” وسوريا على طول”